تنبيه البحث منقول من ملتقى اهل الحديث من مشاركة للعضو ابو عبدالله السعيدى
المبحث الأوّل من مشاركة للعصض : تعريف التقليد .
ويشمل المطالب التالية :
المطلب الأوّل : تعريف التقليد لغة واصطلاحا .
المطلب
الثاني : الفرق بين التقليد والأتّباع .
المطلب الأوّل : تعريف التقليد لغة واصطلاحا .
أوّلا : التقليد لغة : من قلّد المرأة تقليدا , أي جعل القلادة في عنقها , ويكون للإنسان والحيوان , ومنه تقليد البدن : أن يجعل في عنقها شعار يُعلم به أنّها هدي .
ومنه قلّد الأمر : ألزمه إياه .
وتقلّد الأمر : احتمله , وكذلك تقلّد السيف .
ويُقال : قلّد البعير : إذا جعل في عنقه حبلا يُقاد به .
ومقلّد الرجل : موضع نجاد السيف على منكبيه .
ويُقال : قلّد القرد الفرس : إذا حاكاه في حركاته[1] .
ممّا تقدّم نرى أنّ التقليد في اللغة جاء لمعان عدّة منها :
الإحاطة بالعنق , الشعار والعلامة , الانقياد , التفويض , والمحاكاة والمشابهة .
جاء في المفردات في غريب القرآن :
والقلد بفتح القاف وسكون اللام : الفتل , يُقال
: قلّدت الحبل فهو قليد ومقلود , أي فتلته , والقلادة سُمّيت على ما يبدوا ؛ لأنّها مفتولة في
الغالب وبها شبه كل ما يتطوٌّّّّّ به وكلّ ما يحيط
بشيء[2]
.
ثانيا : التقليد اصطلاحا : عرّف علماء الأصول التقليد بتعاريف عديدة , والتي ترجع في نهايتها إلى أنّه أخذ قول الغير بلا حجّة , أو العمل بقول الغير من غير حجّة ولا دليل[3] .
ومن هذه التعاريف : ماعرّفه الإمام الغزاليّ في المستصفي بقوله : " التقليد هو قبول بلا حجّة "[4] .
ومنها ما عرّفه الإمام الآمديّ في كتابه الإحكام بأنّه : " العمل بقول الغير من غير حجّة مُلزمة[5] " .
ومنها ما عرّفه الإمام أبو الخطّاب الحنبليّ في التمهيد في أصول الفقه بقوله : " وسمّي بذلك لأنّ المقّلد يقبل قول المقلّد بغير حجّة "[6] .
ومعنى قولنا : " قبول قول الغير " : أي قبول المقلّد قول المجتهد المبني على الاجتهاد ؛ لأنّ ما فيه نصّ فلا مذهب فيه لأحد , ولا قول فيه لأحد ؛ لوجوب إتّباعها على الجميع , فهو إتّباع لا قول حتّى يكون فيه التقليد[7] .
ومعنى قولنا : " من غير حجّة " : أي أنّ التقليد تفويض وإتّباع للشخص في كلّ ما يقول ؛ فالمقلّد لا يسأل عن كتاب الله ولا عن سنّة رسوله , صلّى الله عليه وسلّم , بل يسأل عن مذهب إمامه فقط , ولهذا يخرج العمل بقول الرسول , صلّى الله عليه وسلّم , والعمل بالإجماع ؛ لأنّ كلا من قول الرسول , صلّى الله عليه وسلّم , والإجماع يُعتبر حجّة في نفسه[8] .
فقول الرسول , صلّى الله عليه وسلّم , وفتواه حجّة ودليل على الحكم , والنبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , لا يُقلَّد ؛ لأنّ قوله حجّة , حيث أنّه إذا أفتى بفتوى لم يحتج أن يدلّ على الحكم بآية من كتاب الله ولا غيره , بل مجرّد نطقه عنه , وكذلك يُقال في الإجماع ؛ فإنّه ليس المصير إلى الإجماع تقليد المجمعين , ولكن نفس الإجماع حجّة لله تعالى , كالآية والخبر , فإذا صار إلى الحكم بدليل الإجماع كان دليله على الحكم الإجماع , بخلاف فتوى المجتهد ؛ فإنّ قوله ليس بحجّة , ولا دليل على الحكم ؛ لأنّه يفتقر إلى دليل يتعلّق الحكم به .[9]
ويخرج بقولنا : " من غير حجّة " : رجوع العاميّ إلى المفتي , ورجوع القاضي إلى شهادة العدول[10] , فهذا الرجوع لا يُعدّ تقليدا ؛ لأنّ قول المفتي والشاهد لزم بحجّة الإجماع , فهو قبول قول بحجّة فلم يكن تقليدا ؛ لأنّ التقليد قبول قول الغير بلا حجّة[11] .
وتجدر الإشارة أنّ الإمام ابن
الهمّام عرّف التقليد : " بأنّه العمل بقول من ليس قوله إحدى الحجج بلا حجّة منهما "[12] . واختار الإمام الشوكاني
هذا التعريف وقال عنه : " هذا الحدّ أحسن من الذي
قبله "[13]
.
المطلب الثاني : الفرق بين التقليد والإتّباع .
يرى بعض العلماء أن لا فرق بين التقليد والإتّباع, ولهذا فإنّهم يُقسّمون الناس بالنسبة لأخذ الأحكام الشرعيّة إلى قسمين : إمّا مجتهد يستطيع استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها , وإمّا مقلّد ليس له قدرة على استنباط الأحكام , بل يأخذ قول المجتهد دون حجّة .
في حين يرى جمهور العلماء والأصوليين أنّ هناك فرق بين الإتّباع والتقليد , فقالوا أنّ التقليد هو عمل بقول الغير بلا حجّة , أمّّّّا الإتّباع فهو الائتمار بما أمر الله تعالى به ورسوله , صلّى الله عليه وسلّم , وترسّم أفعاله وأحواله , صلّى الله عليه وسلّم , للإقتداء به[14] . أو هو أخذ من الدليل لا من المجتهد ؛ لأنّ معرفة الدليل يتطلّب نوع اجتهاد إذ يتوقّف على معرفة سلامة الدليل من المعارض , لذلك إذا تابع الرجل الأئمّّّّّة فيما تابعوا فيه رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم , وانقاد الدليل , فهذا يُعدّ متابعا لا مقلّدا , فأخذه بأقوالهم لدلالة الأدلّّّّة عليها إتّباعا في الحقيقة للأدلّة لا لأقوالهم[15] .
قال الإمام ابن عبد البرّ مبيّنا الفرق بين التقليد والإتّباع : " قال – أي أبو عبد الله بن خويز منداد البصريّ المالكيّ – كلّ من اتّبعت قوله من غير أن يجب عليك قبوله لدليل يوجب ذلك , فأنت مقلّده , وكل من أوجب عليك الدليل إتّباع قوله فأنت متّبعه "[16] .
وقال الإمام ابن القيّم : " وقد فرّق أحمد بن حنبل بين التقليد والإتّباع , فقال أبو داود : سمعته يقول : الإتّباع أن تتّبع الرجل ما جاء عن النبي , صلّى الله عليه وسلّم , وعن أصحابه , ثمّ هو من بعد في التابعين مخيّر "[17] , فاعتبر أنّ الإتّباع هو ما ثبت بحجّة , والمتّبع هو الذي يتّبع الدليل الشرعي ؛ لأنّ الأخذ بالحجّة هو الأصل[18] . من هنا ووفق التفريق السابق للتقليد والإتّباع فإنّ الناس يُقسمون إلى ثلاثة أقسام , إمّا مجتهد , أو مقلّد , أو متّبع , والمقلّد ليس عنده قدرة على البحث والنظر , أمّا المتّبع , فإن لم يكن عنده القدرة على الاستقلال في البحث وفهم الأدلّة واستنباط الأحكام منها كالمجتهد , إلا أنّه يستطيع في الوقت نفسه فهم الحجّة وعرفة الدليل[19] .
قال الإمام الشاطبيّ : المكلّف بأحكامها – أي أحكام الشريعة – لا يخلوا من أحد أمور ثلاثة :
أحدها : أن يكون مجتهدا فيها فحكمه ما أدّأه إليه اجتهاده فيها .
الثاني : أن يكون مقلّدا صرفا خليّا من العلم الحاكم جملة , فلا بد له من قائد يقوده وحاكم يحكم عليه , وعالم يقتدي به .
الثالث : أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين , لكنّه يفهم الدليل وموقعه , ويصلح فهمه للترجيح بالمرجّحات المعتبرة فيه تحقيق المناط ونحوه[20] .
نستنتج ممّا سبق أنّ بين التقليد
والمتابعة عموم وخصوص , فالتقليد مطلق المتابعة , أمّا الإتّباع فهو المتابعة فيما قام الدليل عليه[21] , ونتيجة لهذا التفريق
بينهما اختلف العلماء في جواز أو عدم جواز التقليد , في حين اتّفقت
كلمتهم على أنّ المتابعة جائزة , قال ابن عبد البر نقلا عن الإمام أبي عبد الله بن خواز منداد البصريّ : " والإتّباع في الدين مسوغ "[22] .
المبحث الثاني : أقسام التقليد .
يُقسّم العلماء التقليد إلى قسمين وهما :
القسم الأوّل : التقليد المذموم , أو المحرّم , وهو يُقسم إلى عدّة أنواع :
النوع الأوّل : الإعراض عمّا أنزل الله تعالى , وعدم الإلتفات إليه اكتفاء بتقليد الأباء[23] .
النوع الثاني : تقليد من لا يعلم المقلّد انّه أهل لأن يُؤخذ بقوله[24] .
النوع الثالث : التقليد بعد ظهور الحجّة , وظهور الدليل على خلاف قول المقلّد[25] , ويكون دليل إمامه ضعيفا[26] , يقول الإمام العز بن عبد السلام : " ومن العجب العجيب أنّ الفقهاء المقلّدين , يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه بحيث لا يجد لضعفه مدفعا , ومع هذا يقلّده فيه , ويترك من الكتاب والسنّة والأقيسة الصحيحة لمذهبه جمودا على تقليد إمامه , بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنّة ويتأوّلهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالا عن مقلّده " إلى أن قال : " فسبحان الله ما أكثر من أعمى التقليد بصره حتّى حمله على مثل ما ذكر , وفّقنا الله لإتّباع الحقّ أين ما كان وعلى لسان من ظهره "[27] .
ويُفرّق الإمام ابن القيّم بين هذا النوع والنوع الأوّل : " أنّ الأول قلّد قبل تمكّنه من العلم والحجّة , وهذ قلّد بعد ظهور الحجّة له , فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله "[28] .
النوع
الرابع : تقليد المجتهد الذي ظهر له الحكم باجتهاده مجتهدا آخر يرى خلاف ما ظهر
له[29] , فهذا ليس من التقليد الجائز بلا خلاف ؛ لأنّ العلماء أجمعوا على أنّ المجتهد إذا ظهر له الحكم باجتهاده لا يجوز له أن يُقلّد غيره المخالف له[30] .أأأأأأىلااا
يقول الإمام الآمديّ في الإحكام في أصول الأحكام : " المكلّف إذا كان قد حصلت له أهليّة الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل , فإن اجتهد فيها , وأدّاه اجتهاده إلى حكم فيها , فقد اتّفق الكل على أنّه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين , في خلاف ما أوجبه ظنّه وترك ظنّه "[31] .
النوع الخامس : تقليد رجل واحد معيّن دون غيره من جميع العلماء , أو مذهب معيّن دون غيره يوافقه على كلّ ما يقول وإن خالف الأدلّة الشرعيّة الصريحة الصحيحة[32] , يقول الإمام الشنقيطي : هذا النوع من التقليد " لم يرد به نصّ من كتاب ولا سنة , ولم يقل به أحد من أصحاب رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم , ولا أحد من القرون الثلاثة المشهود لهم بالخير , وهو مخالف لأقوال الأئمّة الأربعة رحمهم الله , فلم يقل أحد منهم بالجمود على رجل واحد معيّن دون غيره من جميع المسلمين "[33] .
النوع السادس : تتبّع الرخص والتسهيلات في المذاهب وفتاوى المجتهدين , وذلك كأن يجمع المقلّد في قضايا ما هو أسهل عليه من المذاهب , أو يقع المقلّد في قضية فيها حكم شرعيّ , فلا يُقلّد من يترجّّّح تقليده من جهة ولايته , أو قوّة دليله , أو تقواه , ولكنّه يختار من المفتين في قضاياه من تكون فتواه في القضيّة المعيّنة سهلة على المقلّد جارية على هواه[34] .
يقول الإمام ابن تيميّة : " إذا جُوّز للعاميّ أن يُقلّد من يشاء , فالذي يدلّ عليه أصحابنا وغيرهم أنّه لا يجوز له تتبّع الرخص مطلقا "[35] .
ويقول الإمام الشاطبيّ : " ليس للمقلّد أن يتخيّر في الخلاف ؛ فإنّ ذلك يفضي إلى تتبّع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعي "[36] .
وهذا القسم من التقليد قد وردت الآيات والآثار في ذمّه , فمن هذه الآيات قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة :170 ] . وقال : { وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34 ] , وقال : { وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .
يقول ابن القيّم بعد أن ساق هذه الآيات مستدلا على فساد هذا القسم من التقليد : " هذا في القرآن كثير يذمّ فيه من أعرض عمّا أنزله وقنع بتقليد الآباء "[37] .
ومن الأحاديث التي تُبيّن حرمة هذا القسم من التقليد ما رواه الإمام المزنيّ عن جدّه قال سمعت رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم , يقول : " إنّي لأخاف على أمّتي من بعدي أعمال ثلاثة , قال وما هي يا رسول الله ؟
قال : أخاف عليهم من زلّة العالم , ومن حكم جائر , ومن هوى متّبع "[38] .
وقال معاذ بن جبل , رضي الله عنه : يا معشر العرب كيف تصنعون بثلاث : دنيا تقطع أعناقكم , وزلّة عالم , وجدال منافق بالقرآن . فسكتوا , فقال : أمّا العالم فإن اهتدى فلا تقلّدوه "[39] .
يقول الإمام ابن عبد البر : " وإذا ثبت وصحّ أنّ العالم يخطئ ويزل , لم يجز لأحد أن يفتي ويدين بقول لا يعرف وجهه "[40] .
ويُعلّق الإمام الشنقيطي على كلام ابن عبد البر السابق : " وإنّما كان كذلك لأنّ من يقلّد العالم تقليدا أعمى يقلّده فيما زلّ فيه فيتقوّل على الله أنّ تلك الزلّة التي قلّد فيها العالم من دين الله , وأنّها ممّا امر الله بها رسوله "[41] .
ومنها
الأحاديث التي تبيّن فساد هذا القسم من التقليد ما أخرجه أنّ رسول , صلّى
الله عليه وسلّم : " إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعا , ينتزعه من الناس ,
ولكن يقبض العلم بقبض العلماء , فإذا لم يبق عالما
اتّخذ الناس رؤوسا فسُئلوا فافتوا بغير علم , فضلّوا وأضلّوا "[42] . يقول الإمام ابن عبد البر معلّقا على الحديث : " هذا كلّه نفي
للتقليد
, وإبطال له لمن
فهمه وهدى لرشده "[43] .
قلت حينما تنكر على بعض الناس إتيانه لمخالفة شرعية ، أو بدعة و توضح له أنه بذلك يخالف نصوص الكتاب ، و السنة يرد عليك أن يقلد الشيخ الفلاني في هذه المسألة .
أنت
تقول : هذا حرام ، أو بدعة و الدليل : قال الله قال رسوله ، و هو يرد عليك : الشيخ
الفلاني أجاز هذا الأمر
.
هذا هو
التقليد المحرم ..أن تقلد شخصا بعدما يتأكد لك مخالفته للدليل الشرعي وهذا النوع
جاءت ادلة كثيرة تحرمه
القسم الثاني : التقليد
المحمود .وهو ما سوى الأنواع السابقة , وهو تقليد من لم تتوفّر فيه شروط الاجتهاد ولا يقدر على معرفة الحكم الشرعيّ بنفسه , ولا يبقى أمامه إلا أن يتّبع مجتهدا من المجتهدين وتقليده[44] . يقول الإمام الشنقيطيّ : " أمّا التقليد الجائز الذي لا يكاد يخالف فيه أحد من المسلمين , فهو تقليد العاميّ عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به , وهذا النوع من التقليد كان شائعا في زمن النبي , صلّى الله عليه وسلّم , ولا خلاف فيه "[45] .
يقول الإمام ابن عبد البر بعد أن ذكر القسم الأوّل من أقسام التقليد وأقوال أهل العلم في ذمّه : " وهذا كلّه لغير العامّة , فإنّ العامّة لا بدّ لها من تقليد علمائها عند النازلة تنزل بها " إلى أن قال : " ولم يختلف العلماء أنّ العلماء عليها تقليد علمائها وأنّهم المرادون بقوله عز وجلّ : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [ النحل : 43] وكذلك لم يختلف العلماء أنّ العامّة لا يجوز لها الفتيا , وذلك والله أعلم بجهلها بالمعاني التي منها يجوز التحايل والتحريم والقول في العلم "[46] .
ويقول الإمام ابن القيم بعد أن ذكر أنّ التقليد يُقسم إلى قسمين : " وإلى ما يجب المصير إليه , وإلى ما يسوغ من غير إيجاب "[47] .
وهذا القسم من التقليد دلّ على
جوازه الأدلّة الشرعيّة من القرآن والسنّة ومدحه
العلماء وقالوا بجوازه , وهو الذي نقصده في بحثنا وسنثبت جوازه في المباحث القادمة
.
المبحث الثالث : حكم التقليد في الأحكام الشرعيّة .
يرى جمهور العلماء أنّ التقليد في
العقائد وأصول الدين لا يجوز , ولكنّهم اختلفوا في حكم التقليد في
الأحكام الشرعيّة , فمنهم من منع التقليد مطلقا سواء
كان المقلّد مجتهدا أو كان عامّيّا , وفي المقابل نجد أنّ من العلماء من أجاز التقليد للعامّي ومنع المجتهد من التقليد . وفي هذا المبحث سوف أتطرّق إلى أقوال العلماء وموقف الإمام ابن حزم في المسألة مبيّنا الأدلّة التي اعتمد عليها كلّ فريق , وذلك من خلال المطالب التالية :
المطلب الأوّل : المجيزون للتقليد وأدلّتهم .
المطلب الثاني : المانعون للتقليد وأدلّتهم .
المطلب الثالث : موقف ابن حزم من التقليد .
المطلب
الرابع : القول الراجح في المسألة
.
المطلب الأوّل : المجيزون للتقليد وأدلّتهم .
ذهب جمهور العلماء[48] على جواز التقليد بالنسبة للعامّي , بل أوجبوه عليه , وفي المقابل حرّموه على المجتهد القادر على الاجتهاد[49] , قال الإمام ابن تيميّة بعد أن سرد أقوال العلماء في التقليد : " والذي عليه جماهير الأمّة : أنّ الاجتهاد جائز في الجملة , والتقليد جائز في الجملة , لا يوجبون الاجتهاد على كلّ أحد ويُحرّمون التقليد , ولا يوجبون التقليد على كلّ أحد ويُحرّمون الاجتهاد , وأنّ الاجتهاد جائز للقادر على الاجتهاد , والتقليد جائز للعاجز عن الاجتهاد "[50] .
وقال الإمام الشنقيطيّ : " أمّا التقليد الجائز الذي لا يكاد يُخالف فيه أحد من المسلمين , فهو تقليد العامّي عالما أهلا للفتيا في نازلة نزلت به "[51] .
وقال الإمام ابن قدامة المقدسيّ : " وأمّا التقليد في الفروع فهو جائز إجماعا "[52] .
قال
الإمام ابن عبد البر : " ولم يختلف العلماء أنّ العامّة عليها تقليد علمائها "[53] .
الأدلّة التي اعتمد عليها أصحاب هذا القول :
لقد اعتمد أصحاب هذا القول بأدلّة من القرآن والسنّة والمعقول , ومن هذه الأدلّة :
الدليل الأوّل : قوله تعالى : { فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [ النحل : 43] , قالوا : إنّ الله تعالى يأمر من لا يعلم أن يسأل من يعلم , وهذا يدلّ قطعا على أنّ الناس فيهم العالم والجاهل , وعلى الجاهل أن يسأل العالم عمّا يحتاج إليه ويعرفه , فتكليف الناس جميعا بأن يكونوا مجتهدين يُخالف ما تفيده الآية الكريمة[54] , والآية عامّة لكلّ ما لا يُعلم ولكلّ من لا يعلم , فالعامّي الذي لا يعلم , يجب عليه السؤال , والعمل بموجبه , وهذا هو التقليد[55] .
يقول الإمام الشنقيطيّ : " أنّ من جهل الحكم تجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به "[56] .
الدليل الثاني : قوله تعالى : { وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] . قال الإمام الزركشيّ : " فأمر بقبول قول أهل العلم , فما كان من أمر دينهم , ولولا أنّه يجب الرجوع إليهم لما كان للنذارة معنى "[57] . فدل ذلك على جواز التقليد للعامّي .
الدليل الثالث : قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ } [ النساء : 59 ] , قالوا : العلماء هم أولو الأمر , لأنّ أمورهم تنفّذ على الأمراء والولاة[58] , لأنّ طاعتهم تقليدهم فيما يفتون , وهذا تقليد منهم للعلماء , ولأنّه لولا التقليد لم يكن هناك طاعة تختصّ بهم[59] .
الدليل الرابع : قوله تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 100 ] , قالوا : " إنّ تقليدهم إتّباع لهم , ففاعله ممّن رضي الله عنهم "[60] , وقد قال ابن مسعود , رضي الله عنه : " من كان منكم مستنّا فليستن بمن قد مات ؛ فإنّ الحيّ لا تُؤمن عليه الفتنة , أولئك أصحاب محمّد أبر هذه الأمّة قلوبا , وأعمقها علما وأقلّها تكلّفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيّه , وإقامة دينه فاعرفوا لهم حقّهم وتمسّكوا بهديهم فإنّهم كانوا على الهدي المستقيم "[61] .
الدليل الخامس : ما رواه الإمام أبو داود في سننه عن جابر , رضي الله عنه , أنّه قال : " خرجنا في سفر , فأصاب رجلا منّا حجر فشجّه في رأسه , ثمّ احتلم , فسأل أصحابه , فقال : هل تجدون لي رخصة في التيمّم ؟ فقالوا : ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء . فاغتسل فمات , فلمّا قدمنا على النبي , صلّ الله عليه وسلّم , اُخبر بذلك فقال : قتلوه قتلهم الله , ألا سألوا إذ لم يعلموا , فإنّما شفاء العيّ السؤال "[62] . قال الزركشيّ بعد سرده للحديث : " فبان بذلك جواز التقليد "[63] ؛ لأنّ النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , أرشد من لا يعلم إلى سؤال من يعلم[64] .
الدليل السادس : ما صحّ عن النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , أنّه قال : " فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي "[65] , وقال : " اقتدوا باللذين من بعدي , أبي بكر وعمر واهتدوا بهدي عمّار وتمسّكوا بعهد ابن أم عبد "[66] .وهذا تقليد لهم قطعا , إذ كيف يكون الإقتداء بهم إن لم يكن تقليدا لهم , رضي الله عنهم[67] .
الدليل السابع : قالوا : إنّ العوام في زمن الصحابة , رضي الله عنهم , والتابعين كانوا إذا نزل بهم حادثة أو وقعت لهم واقعة , يلجؤون إلى المجتهدين من الصحابة أو التابعين , فيسألوهم عن حكم الله في تلك الحوادث والوقائع من غير أن يُنكروا عليه سؤالهم واستفسارهم , ولم يُنقل عنهم أنّهم أمروا هؤلاء السائلين بان يجتهدوا ليعرفوا الحكم بأنفسهم , فكان ذلك إجماعا من الصحابة والتابعين على أنّ من لم يقدر على الاجتهاد لا يُكلّف به , وأنّ طريق معرفته للأحكام هو سؤال القادر على الاجتهاد . فتكليف الناس جميعا بالاجتهاد فيه مخالفة لهذا الإجماع[68] .
الدليل الثامن : قالوا : لا خلاف أنّ طلب العلم من فروض الكفاية التي إذا قام بها البعض سقط عن الباقين , ولو منعنا التقليد ؛ لأفضى إلى أن يكون من فروض الأعيان , وهذا لم يقل به أحد من أهل العلم , بل المنقول عن الصحابة , رضي الله عنهم , والتابعين واهل العلم , أنّ الناس منهم العالم المجتهد ومنهم العامّي المقلّد[69] .
الدليل التاسع : قالوا : إنّ المجتهد في الفروع إمّا مصيب , وإمّا مخطئ مثاب على اجتهاده غير آثم[70] لحديث رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران , وإن أخطا فله أجر "[71] . يقول الأستاذ عبد الكريم النملة في شرحه على روضة الناظر : " فهذا يٌفيد أنّ المجتهد في الفروع إذا أخطأ فلا إثم عليه , بل له أجر , فلا خطر على المقلّد في هذا ... فلذلك جاز التقليد في الفروع "[72] .
الدليل العاشر : قالوا : إنّ تكليف الناس جميعا بالاجتهاد يُؤدّي إلى شغلهم عن القيام بمصالحهم الضروريّة , ومعايشهم الدنيويّة , وفي ذلك تعطيل للمصالح , والصنائع والحرف , وخراب الدنيا , وتعطيل الحرث والنسل , ورفع الاجتهاد والتقليد رأسا , وهو من الحرج والإضرار النفي بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وهو عامّ في كلّ حرج وضرار , كونه نكرة في سياق النفي , وهو عام في المسائل الاجتهاديّة[73] .
الدليل الحادي عشر : أنّ الاجتهاد
قوّة وملكة لا تكون إلا لخاصّة العلماء الذين توفّرت
لديهم أسبابها , وكملت لهم وسائلها و فإذا كُلّف به من لا يقدر عليه كان ذلك تكليفا له بما ليس في وسعه , والتكليف بما ليس في الوسع لا يجوز شرعا لقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ
نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ][74] , وليس للعامّي آلة الاجتهاد في الأحكام ؛ لأنّ الأدلّة
فيها مكتسبة ومقتبسة بالتعليم لا بالقريحة
المطلب الثاني : المانعون للتقليد وأدلّتهم .
ذهب بعض العلماء إلى القول بعدم جواز التقليد مطلقا وبأي وجه من الوجوه , ورأوا أنّ الواجب على العامّي هو النظر والاجتهاد , وأشهر من قال بهذا القول هم الظاهريّة[75] , ومعتزلة بغداد , والإمام الشوكانيّ[76] وغيرهم , واستدلّوا على قولهم هذا بأدلّة من القرآن والسنّة , ومن هذه الأدلّة :
الدليل الأوّل : الآيات القرآنيّة التي ذمّت تقليد الآباء والرؤساء , ومن هذه الآيات قوله تعالى : { َكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] , قالوا : إنّ الله تعالى ذكر تقليد الآباء في معرض الذم والمذموم لا يمكن أن يكون جائزا .
ومنها قوله تعالى : {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا } [ الأحزاب : 66 , 67 ] , ومنها قوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] .
قال الإمام الشوكانيّ في تفسيره لهذه الآية : وفي هذه الآية من الذم للمقلّدين , والنداء بجهلهم الفاحش واعتقادهم الفاسد ما لا يقدر قدره "[77] .
يقول الإمام ابن قيّم بعد أن ذكر آية الأحزاب : " وهذا نصّ في بطلان التقليد "[78] . ويقول الإمام ابن عبد البرّ بعد أن سرد الآيات السابقة : " قال أبو عمر : وقد احتجّ العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من جهة الاحتجاج بها , لأنّ التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر , وإنّما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجّة للمقلّد , كما لو قلّد رجل فكفر , وقلّد فأذنب , وقلّد آخر في مسألة دنياه فأخطأ وجهها ؛ كان كلّ واحد ملوما على التقليد بغير حجّة ؛ لأنّ كلّ ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الأثام فيه "[79] .
ويقول الإمام الشوكاني : " فهذه الآيات وغيرها ممّا ورد في معناه ناعية على المقلّدين ما هم فيه , وهي وإن كان تنزيلها في الكفار لكنّه قد صحّ تأويلها في المقلّدين لاتّحاد العلّة , وقد تقرّر في الأصول أنّ الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب , وأنّ الحكم يدور مع العلّة وجودا وعدما "[80] .
ويقول الإمام ابن حزم مستدلا بالآيات السابقة على بطلان التقليد : " فمن لم يأت بكتاب الله تعالى شاهد لقوله , أو برهن على صدق قوله , وإلا فليس صادقا , لكنّه كاذب آفك , مفتر على الله غزّ وجلّ , ومن أطاع سادته وكبراءه وترك ما جاءه عن الله تعالى وعن رسوله فقد ضلّ , بنصّ القرآن واستحقّ الوعيد بالنار " إلى أن قال : " هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلّدوا أقوام قد نهوهم عن تقليدهم ؛ فإنّهم رحمهم الله تبرّءوا في الدنيا والآخرة من كلّ من قلّدهم , وفاز أولئك الأفاضل الأخيار , وهلك المقلّدون لهم , بعد ما سمعوا من الوعيد الشديد , والنهي عن التقليد , وعلموا أنّ أسلافهم الذين قلدوا قد نهوهم عن تقليدهم , وتبرّءوا منهم إن فعلوا ذلك "[81] .
الدليل الثاني : قالوا إنّ التقليد تقوّل على الله بغير علم وقد نهى الله عن ذلك بقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{168} إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ{169} وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 168 , 179 ] , وقال في سورة أخرى مبيّنا حرمة التقليد : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] , وقال في سورة أخرى : { وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] . يقول القنّوجيّ : " فصرّح جلّ جلاله بالتحريم في هذه الأشياء التي من جملتها التقوّل على الله بغير علم . . . وأيضا التقليد يوجب إتباع الخطأ ؛ لأنّه جائز الوقوع من المجتهد , وعلى تقدير وقوعه يجب إتباعه , والدفع بأنّ الخطأ جائز مع إبداء المستند مسلّم ولكنّه عفو بالنسبة إليه , لورود الدليل الصحيح من المجتهدين أجرا "[82] . ويقول الإمام ابن حزم : " ومن قلّد فقد قال على الله ما لا يعلم , وهذا نصّ كلام ربّ العالمين "[83]
الدليل الثالث : قال رسول الله , صلّى الله عليه وسلّم : " طلب العلم فريضة على كلّ مسلم "[84] , وقال كذلك " اعملوا فكلّ ميسّر لما خُلق له "[85] , قالوا إنّ الحديثين عامّان في جميع الأشخاص وفي كلّ علم , وعليه فهما يدلان على وجوب الاجتهاد والنظر[86] .
الدليل الرابع : الحديث المروي عن الصحابيّ عدي بن حاتم , رضي الله عنه , قال : أتيت النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم وفي عنقي صليب من ذهب , فقال لي : " يا ابن حاتم الق هذا الوثن من عنقك " . فألقيته . ثمّ افتتح سورة براءة فقرأ حتّى بلغ قوله تعالى : { اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ } [ التوبة : 31 ] . فقلت : يا رسول الله , ما كنّا نعبدهم . فقال النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم : " كانوا يُحلّون لكم الحرام فتستحلّونه , ويُحرمون عليكم الحلال فتحرّمونه " . قلت : بلى . قال : " فتلك عبادتكم "[87] .
قال الإمام ابن حزم : " فسمّى النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , إتّباع من دون النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , في التحليل والتحريم عبادة , وكلّ من قلّد مفتيا يُخطئ ويصيب , فلا بدّ له ضرورة أن يستحلّ حراما ويُحرّم حلالا , وبرهان ذلك تحريم بعضهم ما يحلّه سائرهم , ولا بد أنّ أحدهم يُخطئ , أفليس من العجب إضراب المرء عن الطريق التي أمره خالقه بسلوكها , وضمن له بيان نهج الصواب فيها "[88] .
الدليل الخامس : قالوا لقد ورد العديد من الآثار من أهل العلم والتي ذمّوا فيها التقليد ومن هذه الآثار : قال ابن عبّاس , رضي الله عنه : " ويل للأتباع من غمرات العلم , فإنّه يقول من قبل رأيه ثمّ يبلغه عن النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , فيأخذ به وتمضي الأتباع بما سمعت "
ومنها ما ورد عن معاد , رضي الله عنه : " أمّا العالم فإن اهتدى فلا تقلّدوه دينكم , وإن افتتن فلا تقطعوا منه رجاءكم ؛ فإنّ المؤمن يفتتن ثمّ يتوب " .
قال سليمان الفارسيّ , رضي الله عنه : " فإمّا زلّة العالم فإن اهتدى فلا تقلّدوه دينكم " .
وقال ابن مسعود , رضي الله عنه : " ألا لا يقلّدنّ أحدكم دينه رجلا , إن آمن آمن , وإن كفر كفر , فإنّه لا إسوة في الشر " .
وقال الإمام ابن عبد الله بن المعتز : " لا فرق بين بهيمة تُقاد ,إنسلن يُقلّد "[89]
وقال الإمام أحمد : " لا تقلّدني , ولا تقلّد مالكا , ولا الشافعيّ , ولا الأوزاعيّ , ولا الثوريّ , وخذ من حيث أخذوا "[90] .
يقول الدكتور عمر سليمان الأشقر :
" بعد أن سقنا هذه النصوص عن الأئمّة نتسائل فنقول : هل الذين يزعمون أنّهم مقلّدون على مذهب الأئمّة يتّبعون الأئمّة أم هم مخالفون لهم ؟ والجواب واضح : فاللذي يتّبع
شخصا يسمع له ويطيع , وهؤلاء
لو كانوا متابعين للأئمّة لأخذوا بما أمروهم به من تقديم قول الرسول , صلّى الله عليه
وسلّم , على أقوالهم "[91] .
الدليل السادس : قالوا إنّ العامّي لو كان مأمورا بالتقليد , فلا يؤمن أن يكون من قلّده مخطئا في اجتهاده , أو كاذبا فيما أخبره به , فيكون العامّي مأمورا بإتباع الخطأ والكذب , وهذا على الشارع ممتنع[92] .
الدليل
السابع : قالوا : إنّ الفروع والأصول مشتركة
في التكليف بها , فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما
اخبر به , لجاز ذلك في الأصول[93] .
المطلب الثالث : موقف ابن حزم من التقليد .
يُعتبر الإمام ابن حزم , رحمه الله , من العلماء القائلين بمنع التقليد , بل المحرّمين له , وقد صرّح برأيه هذا في العديد من كتبه[94] , حيث اعتبره قول محدث في الدين , ولذلك ردّ بشدّة على القائلين بالتقليد من العلماء , وناقش أدلّتهم وأقام الأدلّة والشواهد التي تؤكّد رأيه , إذ يقول في المحلّى بالآثار : " ولا يحلّ لأحد أن يُقلّد أحدا , لا حيّا ولا ميّتا , وعلى كل أحد من الاجتهاد حسب طاقته "[95] .
وقال في كتاب النبذة الكافية : " والتقليد حرام , ولا يحلّ لأحد أن يأخذ بقول أحد بلا برهان "[96] .
وهو يرى أنّ التقليد كلّّه حرام سواء كان في العقيدة وأصول الدين أو كان في العبادات ومسائل الفقه , إذ يقول : " فالتقليد كلّه حُرّم في جميع الشرائع ؛ أوّلها عن آخرها , من التوحيد والنبوّة والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة وجميع العبادات والأحكام "[97] . ثمّ إنّ الإمام ابن حزم يعتبر التقليد بدعة محدثة في الدين حدثت في القرن الرابع للهجرة[98] , إذ يقول : " وليعلم من قرأ كتابنا أنّ هذه البدعة العظيمة – نعني التقليد – إنّها حدثت في الناس وابتدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة , وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عام بعد وفاة رسول الله , صلّى الله عليه وسلّّم , وأنّه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعدا على هذه البدعة , ولا وُجد فيهم رجل يُقلّد عالما بعينه , فيتّبع أقواله في الفتيا , فيأخذ بها ولا يُخالف شيئا منها , ثمّ ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم , ثمّ لم تزل تزيد حتّى عمّـت بعد المائتين من الهجرة عموما طبق الأرض , إلا من عصم الله عزّ وجلّ , وتمسّك بالأمر الأوّل الذي كان عليه الصحابة والتابعون , وتابعوا التابعين بلا خلاف من أحد من أحد منهم . نسأل الله تعالى , أن يُثبّتنا عليه , وألا يعدل بنا عنه , وأن يتوب على من تورّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين , وأن يفئ بهم إلى منهاج سلفهم الصالح "[99] .
ثمّ إنّ الإمام ابن حزم في تحريمه للتقليد لا يُفرّق بين العالم والعامّي فالكلّ يُحرم عليه التقليد , إذ يقول : " قال أبو محمّد , رحمه الله تعالى : والعامّي والعالم في ذلك سواء . وعلى كلّ أحد حظّه الذي يقدر عليه من الاجتهاد "[100] .
وقال في موضع آخر : " فإن قال قائل : فكيف يصنع العامي إذا نزلت به نازلة ؟
قال أبو محمّد : فالجواب وبالله تعالى التوفيق إنّا بيّنّّّّّّّّّّّّّّّّّّا تحريم الله تعالى للتقليد جملة , ولم يخصّ الله تعالى بذلك عامّيّا من عالم , ولا عالما من عامّي , وخطاب الله تعالى متوجّه إلى كلّ أحد , فالتقليد حرام على العبد المجلوب من بلده , والعامّي , والعذراء المخدّرة , والراعي في شُغف الجبال , كما هو حرام على العالم المتبحّر ولا فرق , والاجتهاد في طلب حكم الله تعالى ورسوله , صلّى الله عليه وسلّم , في كلّ ما خصّ المرء من دينه , لازم لكلّ من ذكرنا , كلزومه للعالم المتبحّر ولا فرق , فمن قلّد من كل من ذكرنا فقد عصى الله عزّ وجل , وأثم , ولكن يختلفون في كيفيّة الاجتهاد فلا يلزم المرء منه إلا مقدار ما يستطيع عليه "[101] .
هذا رأي الإمام ابن حزم في التقليد , ولكنّ السؤال الذي يُطرح هنا , هل يوجب الإمام ابن حزم الاجتهاد على العامّي ؟ بمعنى هل يرى أنّ كلّ إنسان يجب عليه أن يكون مجتهدا ؟ أم أنّه يُفرّق بين العالم والعامّي في مسألة التقليد ؟
الصحيح ومن خلال تتبّع أقوال الإمام ابن حزم في المسألة , أرى – والله أعلم – أنّه فرّق بين العالم والعامّي في المسالة , فهو يرى أنّ مراتب العلم والاجتهاد تختلف من شخص لآخر , ولهذا قال بتحريم الاجتهاد على من ملك آلته , ومن توفّرت عنده أدوات الاجتهاد[102] .
وفي المقابل نجد أنّ الإمام ابن حزم لا يوجب الاجتهاد على العامّي , وإنّما يقول أنّ الممنوع بالنسبة للعامّي وكما يرى الأستاذ أبو زهرة أمران :
" أحدهما : أن يُقلّد إماما بعينه , فإنّ المقلّد لهذا الإمام معناه أنّه يتّبع مذهبه ويقول هو شرع الله تعالى , مع أنّ شرع الله تعالى هو ما اشتمل عليه الكتاب والسنّة .
ثانيهما : أن يقبل فتوى من غيره من غير أن يسنده إلى كتاب الله تعالى أو سنّة رسوله أو يُقرّر مفتيه أنّ ذلك حكم الله ؛ فإن قال إنّ هذا مذهب فلان أو فلان يجب عليه أن يذهب إلى من يقول هذا حكم الله , لا مذهب مالك أو الشافعيّ , أو أحمد , أو داوود , أو أبي عبد الله جعفر الصادق , وعلى ذلك نستطيع أن نقول إنّ ابن حزم لا يُطالب العامّي بأن يترك عمله ويتعرّف حكم الله من الكتاب والسنّة مباشرة فيتعطّل العمران بسبب ذلك "[103] .
يقول الإمام ابن حزم : " فعلى كلّ أحد حظّه من الاجتهاد , ومقدار طاقته منه , فاجتهاد العامّي إذا سأل العالم على أمور دينه فأفتاه أن يقول له : هكذا أمر الله ورسوله ؟ فإن قال له نعم , أخذ بقوله , ولم يلزمه أكثر من هذا البحث , وإن قال لا , أو قال له : هذا قولي , أو قال له : هذا قول مالك أو ابن القاسم أو أبي حنيفة , أو أبي يوسف أو الشافعيّ , أو أحمد , أو داود , أو سمّى له أحد من صاحب أو تابع فمن دونهما غير النبيّ , صلّى اللهى عليه وسلّم , أو انتهزه أو سكت عنه : فحرام على السائل أن يأخذ بفتياه , وفرض عليه أن يسأل غيره من العلماء وأن يطلبه حيث كان , إذ إنّما يسأل المسلم من سأل من العلماء عن نازلة تنزل به ليُخبره بحكم الله تعالى , وحكم محمّد , صلّى الله عليه وسلّم , في ذلك , وما يجب في دين الإسلام في تلك المسألة , ولو علم أنّه يُفتيه بغير ذلك لتبرّأ منه وهرب عنه "[104] .
فابن حزم , رحمه الله , يجعل العامّي مراتب , فالعوام عنده ليس في مرتبة واحدة , أدناها أن يكتفي بأن يُصرّح مفتيه بأنّ ذلك حكم الله تعالى , ثمّ إذا علا في تفكيره قليلا , سأل عن نصّ الحديث , فإن زاد عن ذلك سأل عن السند , فإن زاد عن ذلك سأله عن طبقة الأسانيد , فإن زاد سأل عن أقوال العلماء . وأقلّ المراتب وهم الأكثرون يكتفون من المفتي أن يقول هذا حكم الله . فابن حزم لا يُطالب العامّي بما ليس في طاقته , ولكنّه يُطالبه بما هو في طاقته ولا يدعوا إلى تعطيل المصالح , إنّما يُريد عند سؤال العاميّ أهل الذكر أن يفهّموه أنّ ذلك حكم الله , لا حكم إمام بعينه[105] . يقول الإمام ابن حزم : " فقد فرض الله عليه – أي العامّي – أن يقول للمفتي إذا أفتاه : أكذا أمر الله تعالى أو رسوله , صلّى الله عليه وسلّم ؟ فإن قال له المفتي : نعم لزمه القبول . . . . فإذا زاد فهمه فقد زاد اجتهاده , وعليه أن يسأل : أصحّ هذا عن النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , أم لا ؟ فإن زاد فهمه سأل عن المسند والمرسل والثقة وغير الثقة , فإن زاد سأل عن الأقاويل وحجّّّّّّّّّة كلّ قائل , ويفضي ذلك إلى التدرّج في مراتب العلم "[106] . وقال في موضع آخر : " وكذلك إنّما نُحرّم إتباع من دون النبيّ , صلّى الله عليه وسلّم , بغير دليل , ونوجب إتّباع ما قام الدليل على وجوب إتّباعا "[107] .
ممّا
سبق يتبيّن لنا أنّ الإمام ابن حزم , وإذ يقول بتحريم التقليد ومنعه , فإنّه
في حقيقة الأمر يُحرّم التعصّب لأقوال العلماء وتقليدهم بصورة عمياء , واعتبار أقوالهم دليلا لا يجوز الخروج عنه , وتقديم أقوالهم على قول الله وقول الرسول , صلّى الله عليه وسلّم , ولذا فإنّه لا يكون الفرق كبيرا بين ابن حزم وبين العلماء
الذين أجازوا التقليد
, بل أوجبوه على
العامّة
, ولا يكون
الفرق جوهريّا , فقد اتّفق الإمام ابن حزم مع غيره على أنّ العامّي لا يُكلّف تعرّف
الحكم من كتاب الله وسنّة رسوله ؛ لأنّ ذلك يحتاج إلى دراية خاصّة , وتفرّغ طويل , فقد اتّفق ابن حزم
مع غيره على ذلك , ولكن الأئمّة قالوا : إنّ مذهب
العامّي هو مذهب مفتيه , وللمفتي أن يقول له : هذا مذهب فلان فخذ به . أمّا ابن حزم فيقول : لا , بل الواجب أن يقول : هذا حكم الله فخذ به , فيشترط أن يكون المفتي مجتهدا والمستفتي لا يطلب الحكم في مذهب
, إنّما يطلب حكم الله تعالى , وإذا
كان للعامّي حظ من العلم سأل عن الحديث , وإذا كان له حظّ أكثر , سأل عن سنده
, وهكذا "[108]
.
المطلب الرابع : القول الراجح في المسألة .
بعد أن عرضت أقوال العلماء وموقف ابن حزم في المسألة , أرى , والله أعلم , أنّ القول الراجح هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأوّل وهم جمهور العلماء , مع التأكيد على أنّ موقف الإمام ابن حزم من التقليد لا يختلف كثيرا عن قول الجمهور ؛ لأن التعصّب لرأي مذهب أو عالم دون النظر إلى الأدلّة التي اعتمدها صاحب المذهب أو العالم , لا يصحّ ولا يجوز , بل هو من التقليد المذموم عند العلماء كما مرّ بنا سابقا , أمّا التقليد المحمود فهو جائز , وذلك للأسباب التالية :
السبب الأوّل : رجحان الأدلّة التي اعتمد عليها أصحاب القول الأوّل , والتي تبيّن جواز التقليد بالنسبة للعامي بشكل واضح .
السبب الثاني :أنّ الأدلّة التي اعتمد عليها الفريق الثاني , المانعين للتقليد , محتملة ويمكن مناقشتها على النحو التالي :
أوّلا : استدلالهم بالآيات القرآنيّة التي تُحرّم إتّباع الآباء والأجداد والسادات , استدلال في غير محلّّه ؛ لأنّ الذم هنا إنّما هو على التقليد في العقائد ونحوها ممّا يُطلب فيه العلم[109] , أو ذمّ للتقليد الأعمى الذي لا يعتمد على دليل .
ثانيا : قولهم أنّ التقليد تقوّل على الله بغير علم , يوجّه بأنّ التقليد إتّباع للمجتهد في مسألة استنبط حكمها من الأدلّة الشرعيّة , المعتمدة في الفقه الإسلاميّ . يقول الإمام الشنقيطي : " أمّا استدلال بعض الظاهريّة كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي ننحن بصددها - وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ -ً وأمثالها من الآيات على منع الاجتهاد في الشرع مطلقا , وتضليل القائل به , ومنع التقليد من أصله , فهو من وضع القرآن في غير موضعه , وتفسيره بغير معناه , كما هو كثير في الظاهريّة ؛ لأنّ مشروعيّة سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة . ومعلوم أنّه كان العامّي يسأل بعض أصحاب النبي , صلّى الله عليه وسلّم , فيفتيه فيعمل بفتياه , ولم يُنكر ذلك أحد من المسلمين "[110] .
أمّا ادّعائهم أنّ التقليد يوجب إتّباع الخطأ من الأقوال ؛ لأنّ المجتهد قد يخطأ . فمردود ؛ لأنّ المجتهد يفتي بما صحّ عنده من الدليل وما يعتقده صوابا , والرسول , صلّى الله عليه وسلّم , بيّن أنّه : " إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران , وإن أخطا فله أجر "[111] . ثمّ إنّنا إذا أوجبنا على العامّي الاجتهاد في المسائل النازلة , فلا نأمن من وقوع الخطأ منه , بل هو أقرب إلى الخطأ , لعدم أهليّته , فيكون المحذور مشتركا[112] .
ثالثا : إنّ اعتمادهم على حديث رسول الله , صلّى الله عليه وسلم , والذي بيّن فيه أنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم , وأنّ الحديث عامّ يوجب طلب العلم على كلّ مسلم . يُجاب على هذا الحديث بأنّّّ الخطاب وإن كان عامّا فإنّه يُخصّص على من توافرت فيه شروط الاجتهاد وذلك جمعا بين الأدلّة التي اعتمد عليها أصحاب الفريق الأوّل[113] . ثمّ إنّ الحديث بيّن وجوب طلب العلم على المسلم , وإن اعتبرناه عامّا , فهو لا يبيّن حرمة التقليد , فوجوب طلب العلم , لا يعني أنّ كلّ طالب علم قد يصبح مجتهدا يستطيع استنباط الأحكام الشرعيّة من مظانّها , ولذا فلا تعارض بين القول بوجوب التقليد , وبين القول بجواز التقليد , والله أعلم .
وأمّا قول الرسول , صلّّّّّّّى الله عليه وسلّم , " فالمراد في فعل الطاعات ؛ لأنّ صدر الحديث يقتضيه ؛ لقول الصحابة , رضوان الله عليهم لرسول الله , صلّى الله عليه وسلّم , لمّا سألوه عن القدر , فأخبرهم به عليه السلام , فقالوا : ففيم العمل ؟ فقال عليه السلام : اعملوا , وقاربوا , وسدّدوا , فكلّ ميسّر لما خُلق له "[114] وهو المراد بالاجتهاد ها هنا , ولأنّه مطلق ؛ لأنّه فعل في سياق الإثبات , فيكفي في العمل به صورة , ونحن قد عملنا به , إمّا في الأعمال الصالحة , وإمّا في أصول الديانات , وأيّما كان فقد خرجنا عن عهدة هذا النصّ , ولم يبق فيه حجّة "[115] .
رابعا : قولهم : أنّ الآثار المرويّة عن الصحابة والتابعين والأئمّة وردت بذمّ التقليد , يوجّه بأنّ آثارهم وردت في ذمّ التقليد المذموم الذي سبق بيان حرمته , وهذا التقليد لا يقول به أحد .
أو أنّ ذمّهم هذا كما يقول الإمام ابن عبد البر : " لغير العامّة , فإنّ العامّة لا بدّ لها من تقليد علمائها عند النازلة "[116] .
خامسا : أمّا قولهم : إنّ الفروع والأصول مشتركة في التكليف بها , فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما اخبر به , لجاز ذلك في الأصول , فالجواب عليه كما بيّن الإمام أبو الخطّاب الحنبليّ في التمهيد : " أنّه جمع بغير علّة , على أنّ مسائل الفروع يُطلب فيها ما يغلب على ظنّه أنّه الحق , وذلك يحصل للعامّي بقول المفتي كما يحصل للعالم بخبر الواحد عن الرسول , صلّى الله عليه وسلّم .
وجواب
آخر : أنّ مسائل الأصول من التوحيد والنبوّات طرقها عقليّة يحتاج الإنسان
فيها إلى تنبيه يسير ؛ فلا ينقطع عمر الإنسان ومعاشه
فيها , بخلاف الفروع ؛ فإنّها تكثر وتتجدّد , والاجتهاد فيها لا يتمّ إلا بامور شرعيّة لا يمكن ضبطها ومعرفتها إلا
بطول يفضي على ما ذكرنا "[117] , أي يؤدّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّ ي إلى الانقطاع عن المعاش الذي به قوام الدنيا .
الهوامش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق